الآثار الإيمانية للقرآن الكريم

الآثار الإيمانية للقرآن الكريم

مقدمة: القرآن العظيم هو ذلك النور المبين الذي نزَلَ به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؛ ليبُثَّ أنواره في هذا الوجود فتستنير القلوب، وتهتدي النفوس، وتُشرق الدروب، وتسترشد به الحياة كلّ الحياة؛ فإن كانت آيات الكون صامتة يستنبط الناس منها الفكرة، ويستخلصون منها العبرة، فآيات القرآن ناطقة تُعرِّف الناسَ بربهم، وتتولى إليه قيادَهم.(1)

أولا: حاجة الأمة إلى إعادة الثقة بالقرآن

- إنه القرآن سرُّ سعادتنا ومصدر  قوتنا وعزتنا

هذا القرآن الذي بين أيدينا له قوة تأثير هائلة لا يمكن للعقل أن يدرك أبعادها أو يحيط بها، ولقد ضرب الله لنا بعض الأمثلة التي تبين ذلك لندرك قيمة المعجزة التي بين أيدينا...انظر إلى قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]

قال القاسمي: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} أي قرآنا مّا ( سُيِّرَتْ بِهِ ) أي: بإنزاله أو بتلاوته الْجِبالُ أي أُذهبت عن مقارّها، وزُعزعت عن أماكنها ( أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ) أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي خُوطبتْ بعد أن أُحْييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف أي: لكان هذا القرآن لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف.(2) فأيّ قوةٍ هذه التي تستطيع أن تُحرك جبلاً من مكانه، أو تقطع الأرض فتجعلها منفصلة عن بعضها، بل وتكلم الموتى فيستجيبون؟! إنها بلا شك قوة لا يمكن للعقل البشري أن يحيط بها أو يدرك أبعادها.

فإن كانت تستطيع أن تفعل ذلك كله - بإذن الله - فماذا عساها أن تفعل بي وبك إن دخلنا إلى دائرة تأثيرها؟!

إنه شيء لا يمكن للعقل للبشري القاصر أن يدرك أبعاده ومدى قوة تأثيره {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

والمعنى: لَوْ أَنِّي أَنْزَلْتُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ حَمَّلْتُهُ إِيَّاهُ تَصَدَّعَ وَخَشَعَ مِنْ ثِقَلِهِ وَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.(3)

قال ابن القيم: فَهَذَا حَال الْجبَال وَهِي الْحِجَارَة الصلبة، وَهَذِه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال رَبهَا وعظمته، وَقد أخبر عَنْهَا فاطرها وباريها أنه لَو أنْزلَ عَلَيْهَا كَلَامَه لخشعت ولتصدعت من خشيَة الله.(4)

ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين، فلهذا قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لما فيه من التخويف والترهيب المزعج، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر.(5)

لذلك كان للقرآن عظيم الأثر على قلوب الصحابة وفي تغيير واقعهم، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضى الله عنها- قَالَتْ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إذا قُرئ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ.(6)

- إنه القرآن  المعجزة الخالدة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ).(7)

يعلق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث فيقول: معناه: أن معجزة كل نبيّ انقرضتْ بموته، وهذا القرآن حجةٌ باقيةٌ على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرَّدّ، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل؛ مَن تركه مِن جبار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

 فإنه ليس ثَمَّ حُجةٌ ولا معجزةٌ أبلغُ ولا أنجعُ في النفوس والعقول من هذا القرآن، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.(8)

إذن فالقرآن الذي بين أيدينا هو الذي تحتاج إليه الأمة جمعاء، ليكون بمثابة المصدر والمولد للطاقة والقوة والمحرك لها نحو مجدها وعزها وسعادتها في الدنيا و الآخرة.(9)

ثانيا: الآثار الإيمانية للقرآن على المسلم وعلى الأمة

للقرآن الكريم عظيم الأثر في قوة إيمان المسلم وحسن سلوكه وأخلاقه وأقواله وأفعاله، وله عظيم الأثر في بناء كيان الأمة وقوتها وعزها وكرامتها، وهذه بعض آثار القرآن التي تعود على المسلم وعلى الأمة في الدين والدنيا تحريكا للقلوب وتحفيزا للمشاعر نحو كتاب الله الذي هو مصدر النور والسعادة في الدنيا والآخرة.

- القرآن  هو الروح  الذي  به حياة الفرد وحياة الأمة

فلا حياة للمسلمين في أي زمان ومكان بدون القرآن الذي هو مصدر حياة قلوبهم.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]

قال السعدي: هو هذا القرآن الكريم، سماه روحا، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.(10)

وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض.(11)

وسرُّ ذلك أن المعجزة القرآنية تقوم بتوصيل تيار الحياة إلى القلب فيفيق من غفلته، ويحيا بعد موته، وينطلق إلى ربه، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]

قال ابن تيمية: فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.(12)

لذلك قال عثمان بن عفان -رضى الله عنه-: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.(13)

- القرآن فيه شرفنا ورفعتنا

القرآن هو شرفنا ومصدر عزنا...هذا هو دوره، وهذا هو قدره، ألم يقل سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]

قال السعدي: أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم.(14)

وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]  أي: إن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك.(15)

وعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ).(16)

قال أبو العباس القرطبي: يعني: يُشرّف، ويُكرم في الدنيا والآخرة، وذلك بسبب الاعتناء به، والعلم به، والعمل بما فيه. "ويضع": يعني: يحقِّر ويصغِّر في الدنيا والآخرة، وذلك بسبب تركه، والجهل به، وترك العمل به.(17)

- القرآن هو لذة الأرواح  وبهجة  القلوب

قال بعض السلف لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. قال: واغوثاه لمؤمنٍ لا يحفظ القرآن فَبِمَ يترنم؟ فَبِمَ يتنعم؟ فَبِمَ يناجي ربه؟.(18)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضى الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَوْصِنِي، قَالَ: (عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ رَوْحُكَ فِي السَّمَاءِ، وَذِكْرُكَ فِي الْأَرْضِ).(19)

وقال ابن تيمية: أنا جنتي وبستاني في صدري أَنَّى رُحْتُ فهي معي.(20)

يريد بذلك القرآن والسنة التي في صدره تُثبته وتزيده يقينا وسعادة وإيمانا.

-  القرآن باعث على خشية  الله والفزع إلى ذكره

وهذا أثر إيماني مُهم؛ لأنَّه يبعث على استقامة العبد في شتى أموره، وفي كل تصرفاته؛ قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23]

قال ابن كثير: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ، وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.(21)

قال الخطابي: فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلَص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حالٍ، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه.(22)

 قال السعدي: فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، عُلم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه، أجلّ المعاني، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم.(23)

وقال تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]

قال ابن القيم: يا عجبا من مُضْغَةِ لحمٍ أقسى من الْجبَال تسمع آيَات الله تتلى عَلَيْهَا وَيذكر الرب تبَارك وَتَعَالَى فَلَا تلين وَلَا تخشع وَلَا تنيب! ؟.(24)

ولأجل هذا عاتب الله أهل الإيمان لما تأخر تأثرهم وتفاعلهم مع هذا القرآن فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]

قال ابن مسعود -رضى الله عنه-: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.

 وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.(25)

- القرآن  سبب لمحبة  الله لعبد ومحبة العبد لربه

عَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي

صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟)، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ).(26)  قال ابن القيم: فالله سبحانه يحبُّ صفاتِه وأسماءَه، ويحبُّ مَنْ يُحبُّها.(27)

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلْيَقْرَأ فِي الْمُصْحَفِ).(28)

قال الصنعاني: فإنَّ العبد بنظره إلى حروف كلام الله يزداد قلبُه إيمانًا فيزداد لله ولرسوله حبًّا.(29)

-  القرآن هداية من الضلال  ونور  في الظلمات

عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: تضمَّن الله لمن قرأ القرآن، واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123].(30)

وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]

قال السعدي: يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره.(31)

قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة.(32)

- إنه الشرف والعز  والمكانة لأمة الإسلام

قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]

قال السعدي: أي: فيه شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم.(33)

وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]

قال السعدي: أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يقادر قدرها، ولا يعرف وصفها، ويذكركم أيضا ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه.(34)

ولما علم أعداؤنا أهمية وجود القرآن في بقاء الأمة سعوا بكل جهدهم لتغييب القرآن عن واقع المسلمين وتنحية عن حياتهم ولن يستطيعوا.

يقول أحد الذين تولوا رئاسة الوزراء في بريطانيا: ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان.

ويقول قائلهم: ما دام المسلمون يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية فلن ننتصر عليهم، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم.

يقول أحد المنصِّرين: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية، بعيدًا عن محمد وكتابه.(35)

- إنه الشفاء والرحمة للمؤمنين به العاملين بهداه

قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]

قال ابن القيم: " مِنْ " هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فإن القرآن كله شفاء، فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن.(36)

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]

القرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدا.

وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، فمن لم يشفه القرآن، فلا شفاه الله، ومن لم يكفه فلا كفاه الله.(37)

عن عَائِشَةَ -رضى الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ.(38)

-  القرآن  بصائر تبصِّر المتحقق المتخلق بها، فيكون بذلك من المبصرين للحق العاملين به

 قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]

قال القاسمي: المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، جمع (بصيرة) وهو النور الذي يستبصر به القلب، كما أن البصر نور تستبصر به العين.(39)

- القرآن سبب  لنزول السكينة  والرحمة

 عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضى الله عنه- قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ).(40)

أي السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب ويسكن بها عن الرعب، فإن المؤمن تزداد طمأنينته بالآيات إذا قرأها متدبرا لمعانيها.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).(41)

فيا من تشكون من ضيق الصدور، ومن الاضطرابات والقلق والأرق، اعلموا أنه لا راحة لكم إلا في القرآن لأن سعادة القلوب في تلاوة كتاب علام الغيوب.

- القرآن سبب  تحصيل الخيرية والمنازل العالية

 عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ).

وفي رواية: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ).(42) فأعظم العلوم وأشرف العلوم وأجل العلوم التي تملأ القلب بتقوى الله هو علم القرآن العظيم.

قال ابن القيم: هذا يدل على شرف وفضل تعلم القرآن وتعليمه وإن أهله هم أهل التقدم إلى المراتب الدينية.(43)

قال الحافظ ابن حجر: ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى وبقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والدعوة إلى الله تقع بأمور شتى منها تعليم القرآن وهو أشرفها.(44)

وقال أبو عبد الرحمن السلمي بعد أن روى هذا الحديث: فذاك الذي أقعدني في مقعدي هذا، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف.(45)

--

(1) نظرات في القرآن الكريم، محمد الغزالي (ص: 8)

(2) محاسن التأويل (6/ 284)

(3) تفسير الطبري (22/ 549 )

(4) مفتاح دار السعادة (1/ 221 )

(5) تفسير السعدي (ص: 723 )

(6) تفسير القرطبي (15/ 249 )

(7) رواه البخاري (4981) ومسلم (152)

(8) تفسير ابن كثير (4/ 461)

(9) إنه القرآن سر نهضتنا  (ص: 22 ) بتصرف

(10) تفسير السعدي (ص: 762)

(11) تفسير القرطبي (16/ 55)

(12) مجموع الفتاوى (19/ 94)

(13) جامع العلوم والحكم (2/ 342)

(14) تفسير السعدي (ص: 519)

(15) تفسير الطبري (20/ 602)

(16) رواه مسلم (817)

(17) المفهم (7/ 78)

(18) حلية الأولياء (10/ 343)

(19) رواه أحمد (3/ 82) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 498)  ومعنى (رَوْحُكَ فِي السَّمَاء) أي راحتُك (وذكرك فِي الأَرْض) بإجراء الله أَلْسِنَة الْخلق بالثناء الْحسن عَلَيْك. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 386)

(20) الوابل الصيب (ص: 48)

(21) تفسير ابن كثير (7/ 95 )

(22) البرهان في علوم القرآن (2/ 106)

(23) تفسير السعدي (ص: 722)

(24) مفتاح دار السعادة (1/ 221)

(25) مدارج السالكين (1/ 516)

(26) رواه البخاري (7375) ومسلم (813)

(27) الداء والدواء (ص: 207)

(28) رواه ابن المقرئ في معجمه (498) وابن شاهين في فضائل الأعمال (191) وأبو نعيم في الحلية (7/ 209) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1078)

(29) التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 257)

(30) تفسير الطبري (16/ 191)

(31) تفسير السعدي (ص: 454)

(32) أضواء البيان (3/ 17)

(33) تفسير السعدي (ص: 519)

(34) تفسير السعدي (ص: 766)

(35) نقلا عن كتاب فتح الرحمن في بيان هجر القرآن (ص: 49)

(36) الداء والدواء (ص: 8)

(37) زاد المعاد  (4/ 323)

(38) رواه البخاري (4439) ومسلم(2192)

(39) محاسن التأويل (4/ 458)

(40) رواه البخاري (5011) ومسلم (795)

(41) رواه مسلم (2699)

(42) رواه البخاري (5027) و (5028)

(43) مفتاح دار السعادة (1/ 74)

(44) فتح الباري لابن حجر (9/ 76)

(45) راجع الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 296)