الآثار الإيمانية للصيام

الآثار الإيمانية للصيام

مقدمة

يُعدّ الصوم مدرسة تربوية كبرى يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الذي تُزيِّنُه التقوى والمراقبة والمحاسبة والصبر والمجاهدة، فالصوم من أهم العبادات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته فيندم على ما ارتكبه من المخالفات والآثام وتصحو نفسُه فتقلع عن المعاصي وتنقاد إلى ربها وتسارع إلى مرضاته فتسمو وتتلذذ بقربه وتشتاق إلى لقائه.

قال ابن القيم: لما كانت مصالح الصوم مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانا إليهم وحِمْيةً لهم وجُنَّة.(1)

الأثار الإيمانية للصيام

إن الصائم الذي يستطيع أن يمتنع عن الطعام والشراب، ويكبح جماح شهوته، فإن صيامه هذا سيترتب عليه أجر كبير، وآثار عظيمة تسهم في إصلاح جانبه الروحي، وتقويم صحته وتقويتها؛

ولما كانت آثار الصيام كثيرة سنعرض لأهمها:

1- تحقيق أعلى مراتب الدين وهو الإحسان

فحقيقة الإحسان: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)(2).

والصائم خير مثال للإحسان، لأن الصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلع على حقيقته إلا الله تعالى وبإمكان العبد أن يختفي عن الناس ويُغلق على نفسه الأبواب ويأكل ويشرب ثم يخرج إلى الناس ويقول أنا صائم ولا يعلم ذلك إلا الله تبارك وتعالى

ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ومراقبته له.(3)

قال ابن القيم: فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة.(4)

فالصيام أمره موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى.فالصائم ترك كل شهوة في قدرته تناولها، ولولا اطلاع الله تعالى ومراقبته له لما صبر، فلا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملَكةُ المراقبة لله تعالى، والحياء منه سبحانه، أن يراه حيث نهاه، ويفتقده حيث أمره.

وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى، والاستغراق في تعظيمه وتقديسه، أكبر مُعد للنفوس، ومؤهل لها لضبطها ونزاهتها في الدنيا وسعادتها في الآخرة.

إن النفوس المتحلية بالمراقبة لا تقدم على غش ولا خديعة ولا خيانة ولا ظلم ولا استرسال مع أي معصية وروح الصيام وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة.

إذا ما خلوتَ الدهر يوما فلا تَقُل...خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة...ولا أن ما يخفى عليه يغيب(5)

2 - أنه أعظم عون على التقوي

من الآثار الإيمانية للصيام تحقيق تقوى الله، كما بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]

فالصوم سببٌ عظيم موصِّل للتقوى؛ لما فيه قهر النفس وكبح جماحها وكسر

شهواتها، وامتثال أمر الله واجتناب نهيه.

قال ابن القيم: الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى.(6)

والتقوى هي الخصلة التي تجمع خير الدنيا والآخرة، قال الغزالي مبينا ذلك المعنى:

أليْسَ اللهُ سبحانه أَعلمُ بصَلاح العَبْد من كلِّ أَحدٍ؟ ولَو كانت في العالَمِ خصلةٌ هي أَصلحُ للعبد وأَجْمَعُ للخير، وأَعظمُ للأَجْرِ، وأَجَلُّ في العُبوديّة، وأَعظمُ في القَدْرِ، وأَوْلَى في الحالِ، وأَنجحُ في المآلِ من هذه الخَصْلَة الَّتَي هي التقوىَ لكان الله سبحانه أَمَرَ بهَا عِبادَه وأَوْصَى خَواصّه بذلك؛ لِكمال حِكْمَته، ورحمته، فلمّا أَوْصَى بهذه الخَصْلة جميعَ الأَوْلين والآخِرين من عِبادِه واقتصر عليها عَلِمْنا أَنَّها الغايةُ التي لا مُتجاوَزَ عنها، وعلمت كذلك أنها الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، الكافية لجميع المهمات المبلغة إلى أعلى الدرجات.{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].(7)

فالصيام شرع لتحصيل التقوى وهي كلمة جامعة لكل خصال الخير، ومؤداها أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، فمن لم يجد أثر التقوى، فليراجع نفسه.

فأهل التقوى هم الذين يمنعون أنفسهم من الوقوع فيما حرم الله خوفا من عقابه، قال الحسنُ: المتقونَ اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهِم، وأدَوا ما افْتُرِص عليهم.

وقال عُمرُ بنُ عبد العزيزِ: ليسَ تقوى اللَهِ بصيامِ النهارِ، ولا بصيامِ الليلِ، والتخليطِ فيما بيْنَ ذلكَ، ولكن تقوى اللَّهِ تركُ ما حرَّم اللَّهُ، وأداءُ ما افترضَ اللَّه، فمن رُزِقَ بعدَ ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خيرٍ.(8)

3 - تجريد الإخلاص

إن الصيام يحرّك الإخلاص لله في نفس العبد، وينمّي في قلبه حُسن القصد له، ويحقق التجرّد له سبحانه، حيث يكون المؤمنُ حال صومه في أسمى معاني الإخلاص، وأرفع درجات الصِّفاء والقرب من الله، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي).(9)

فاختصّ الله تعالى الصوم دون سائر العبادات بهذا الفضل لأن الصوم سرٌّ بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصا ويعامله به طالبا لرضاه.(10)

وكفى بقوله (الصوم لي) فضلا للصيام على سائر العبادات، والكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.(11)

قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: (يدع شهوته من أجلي).

وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر مِن شوب، بخلاف الصوم.(12)

فالإخلاص من الدروس الغالية التي تتعلمها النفوس بالصوم، فما سمعنا أن مُراءٍ صام أو منافق قط، وذلك أن غاية الرياء وهدفه الحقيقي هو مدح المادحين أو طلب المنزلة في أعين الخلق بما يفعله المرائي من وجوه الطاعات والبر، وهذا الأمر غير حاصل له بالصوم، لأن الصوم سر بين العبد وربه جل وعلا، فلا يصوم إلا المخلصين التاركين لطعامهم وشرابهم وشهوتهم من أجل طاعة ورضا الله تعالى وحده دون سواه.

وحاجة النفس للإخلاص أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب والهواء، فالإخلاص من أهم أسباب تزكية النفوس وطهارتها ونجاتها يوم القيامة، فكل طاعة أو عمل نرجو جزائه عند الله تعالى لابد له من إخلاص يبعده عن النظر للمخلوقين ويوجهه للخالق جل وعلا، وبذلك يكون له عند الله القبول والمثوبة، فهو ركن من أركان العمل وشرط من شروط قبوله، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ).(13)

فالإخلاص روح أي عباده، عليه تقوم، وبه تقبل عند الله عز وجل.

4- تعويد النفس على الانقياد والتسليم لأوامر الشرع دائما

فالصوم لِجام المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال.(14)

فالله سبحانه منع الصائم من الأكل والشرب والشهوة لا تعذيبًا له، بل ليتعلم كيف يترك الشيء لله رغم منازعة الهوى له، فتأمل هذه الأوامر الربانية التي تُحدد معالم الصيام وتبين بدايته ونهايته وما على المسلم إلا التسليم والانقياد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]

وأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بصوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غمَّ في أوله أو آخره أُكملت عدة الشهر ثلاثين يوما، وما على المسلم إلا السمع والطاعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ).(15) ولفظ مسلم: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا).

5 - تقوية روح الأخوة وتدعيم رابطة الدين

يعتبر الصيام تربية للأمة على الوحدة والاجتماع وعدم التفرق، فتصوم الأمة كلها إذا رأوا الهلال، ويفطروا جميعًا إذا غربت الشمس، كل ذلك ليتعود الناس رغم المسافات بينهم على الوحدة ويعرفوا ثمرتها وفائدتها، حتى إذا انتهى الصوم سعى الناس للوحدة في الكلمة والهم والهدف والغاية، قال تعالى {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]

6- تزكية النفس وتطهيرها

من مقاصد الصيام وآثاره الجليلة أنّ فيه تزكية للنفس وتنقية لها من الأخلاق الرذيلة،

 قال ابن القيم: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.(16)

وإليك بعض مظاهر وجوانب تزكية النفس التي يحصلها المسلم من الصيام:

- الصيام قاطع مُؤقَّت لشهوة النكاح، وسبب للعِفَّة والطهارة، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- موصيًا شباب أُمَّتِه - وأكرِم به من موصٍ -صلى الله عليه وسلم- (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)(17).

- الصيام مهذِّب لنفس الصائم، ممسكٌ عليه لسانَه وجوارحه عن قول زُورٍ أو عملٍ به، مصبِّرٌ له على أذى الناس.قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ).(18)

 وقال -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).(19)

7 - أنه جُنة من الشهوات المحرمة وجنة من النار

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ).(20)

قال ابن رجب: إذا كان الصوم جُنة للعبد من المعاصي، كان له في الآخرة جنة من النار، وإن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جنة في الآخرة من النار.(21)

 قال المناوي: جنة أي: وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح

في الآخرة من النار لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان فإن الشبع مجلبة الآثام منقصة للإيمان ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه) فإذا ملأ بطنه انتكست بصيرته وتشوشت فكرته.(22)

فلا يكفي أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب فقط، بل لابد أن يحفظ هذا الصيام مما يخدشه وينقص أجره، وهذا الحفظ يجعل الصائم يحقق معنى الصيام الحقيقي.

قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: إذا صُمْتَ فليصمْ سمعُك وبصرك ولسانُك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يومَ صومك، ولا تجعل يومَ فطرك ويوَم صومِك سواءً.(23)

وقال بعض العلماء: كمْ مِن صائمٍ مُفطرٌ، وكم مِنْ مُفطرٍ صائمٌ، والمفطرُ الصائمُ هو الذي يحفظُ جوارحَه عن الآثام ويأكلُ ويشربُ، والصائمُ المفطرُ هو الذي يجوعُ ويَعطشُ ويُطلقُ جوارحَه.(24)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ، وَجَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ).(25)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ).(26)

8- التزام الصبر

الصيام بمثابة تمرين للمسلم على الصبر والتحمل والجلد؛ لأنه يحمله على ترك محبوباته وشهواته، لذلك سمَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان شهر الصبر لأن الصيام أعظم بواعث الصبر، عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (شَهْرُ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ).(27) وعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنِ الأَعْرَابِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ).(28)

معلوم أن كبح جماح النفس فيه مشقة عظيمة، ولهذا كان الصوم من أقوى العوامل على تحصيل أنواع الصبر الثلاثة، وهي صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله، ومتى اجتمعت أدخلت العبد الجنة بإذن الله؛ قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

والله سبحانه جعل الصبر والتقوى جُنةً عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجنَّ العبد من عدوه بجُنة أعظم منهما، قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وكُلا من الصبر والتقوى من الآثار الإيمانية للصيام.(29)

فالصوم خير مدرب للإرادة، وخير معلم للصبر، والصبر مدرسة يعد فيها الرجال فيجعلهم يألفون الشدائد ويتحملونها في سبيل كل نجاح وفلاح، وما قامت أي حضارة وما أحرز أي تقدم وازدهار إلا بالرجال الصابرين على المحن التي تعترض طريق النهضة.

الصبرُ مثْلُ اسمِه، مُرٌّ مَذاقتُهُ...لكنْ عواقبُه أَحلَى مِن العسل(30)

9 - الشعور بالعدل والمساواة

الصيام مظهر من مظاهر العدل والمساواة في الشريعة الإسلامية، فلا صوم خاص لطائفة مخصوصة، وإنما الجميع يمسك عن الطعام في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، لا فرق بين أمير ومأمور، ولا صغير وكبير، ولا شريف ووضيع، وكم بهر مظهر الإفطار الجماعي عقولًا وحيَّر ألبابًا، فأذعنت وانقادت، واهتدت بنور الله تعالى ولا سيَّما وأنت تنظر بطرفك في حرم الله الآمن، وترى الجموع الغفيرة تفطر في ثانية واحدة، فلله كم في هذا المظهر من دلالة على عظمة هذا الدين.

10 - دفع العبد لشكر النعم

من الآثار الإيمانية العظيمة للصيام أنه يُذكِّر الإنسان بنعمة الله تبارك وتعالى، فالإنسان إذا تكاثرت عليه النِّعَم ألِفَها وطال أُنْسه بها، وربما نسي الشعور بقيمتها والإحساس بأهميتها، من طول تعوده على وجودها.

والنِّعَم لا تعرف إلا بفقدانها، فالصحة لا تُعرف قيمتها إلا عند المرض، والمال لا تدرك قيمته إلا عند الفقر، والشبع لا تدرك أهميته إلا عند الجوع.

فجاء الصوم كالموعظة العملية، حيث يسلب الله تعالى به من العباد بعضَ نعمه في أوقات محدودة، ولا يسلبهم الاختيار حتى يصابوا بالذل، وإنما يسلبهم مؤقتًا باختيارهم بعضَ نعمه، لكي يتذوقوا ألمَ الحرمان، فيعرفوا نعمة الله تعالى، ويشكروه، عندما يحل لهم الطيبات.

ومتى تكرر هذا الحرمان أيامًا متتالية كل عام، تركز الشكر في نفوسهم، فلزموه على كل حال، فأصبحوا شاكرين.وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]

11 - تقوية الإرادة

لا توجد عبادة من عبادات الإسلام تشحذ الإرادة وتقويها كالصوم؛ لأن الصائم لا تفتأ نفسُه الأمارة تُزين له الشهوة وتغريه بالملذات، فيحتاج في قهرها وإلزامها سبيل الطاعة إلى إرادته كسلاح حاسم بتّار، وما أشبه الصائم بجندي في معركة، سلاحُه فيها إرادته المصممة، ويوم يضعف هذا السلاح؛ ينهزم الصائم في معركة الصوم، وما يزال الصائم يستخدم إرادته في قهر نفسه؛ حتى تصبح بالممارسة العملية سلاحًا بتارًا قويًّا يستصحبه في غير رمضان من شهور العام.

فكم مِن نفْس أقلعتْ عن الكلام السيِّئ بعد أن تربَّت وتعوَّدتْ في هذا الشهر على هجران قبيح القول! وكم مِن نفس أقلعتْ عن تعاطي الدُّخَان وما شابهه من المحرَّمات بعد أن عزمتْ على تركه وهجره كاملًا في شهر رمضان! وكم مِن شخصٍ عاد محافظًا على الصلاة في المسجِد جماعةً مع المصلين! وكل ذلك كان في مدرسة الثلاثين يومًا المبارَكة في هذا الشهر العظيم.

12 - ترسيخ الإيمان باليوم الآخر

إن الصيام يرسّخ الإيمان باليوم الآخر ويقويه، ويربط الصائم بأحوال الآخرة وما فيها

ومن صور ذلك:

- تقوية الإيمان واليقين لدى العبد بلقاء الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ).(31)

- الإيمان بالشفاعة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الصِّيَامُ

وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ).(32)

- أن يوقن المؤمن ويصدّق بباب الريان الخاص بالصائمين فيعمل لذلك، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لاَ يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ).(33)

- الإيمان بالنار والسعي للفرار منها بكل سبيل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ).(34)

قال بشر بن الحارث: طوبي لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.(35)

12تفجير ينابيع الرحمة في قلوب الأغنياء تجاه الفقراء

فالصيام يُفَجِّر ينابيع الرحمة والعطف في قُلوب الأغنياء، ويدفعهم إلى مُوَاساة الذين ضاقَتْ بهم سُبُل العيش، بعد أن أحَسوا بِأَلَم الجوع، فالإنسان إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات تذكر الفقير الجائع في كل الأوقات فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه وبذلك تسود روح الأخوة والمحبة بين أبناء المجتمع.

سُئِل بعضُ السلف: لِمَ شُرع الصيام؟ قال: "ليذوق الغنيُّ طعمَ الجوع فلا ينسَى الجائِعَ".

لأنَّ رمضان شهر المواساة فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة(36).

---

(1) زاد المعاد (2/ 28)

(2) رواه البخاري (50) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ومسلم (8) من حديث عمر -رضي الله عنه-

(3) العبرة في شهر الصوم لعبد المحسن البدر(ص: 34)

(4) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 27)

(5) جامع العلوم والحكم (1/ 409)

(6) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 28)

(7) بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (5/ 261)

(8) تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 362)

(9) رواه مسلم (1151)

(10) فتح الباري لابن حجر (4/ 110)

(11) فتح الباري لابن حجر (4/ 108)

(12) فتح الباري لابن حجر (4/ 107)

(13) رواه مسلم (2985)

(14) زاد المعاد لابن القيم 2/ 27)

(15) رواه البخاري (1909) ومسلم (1081) ومعنى ( غُبِّيَ و غُمَّ ) أي حال دون رؤيته غيم أو قترة.

(16) زاد المعاد (2/ 27)

(17) رواه البخاري (5065) ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.

(18) رواه البخاري (1894) ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. ومعنى الرفث: فاحش الكلام

(19) رواه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(20) رواه البخاري (1894) ومسلم (1151)

(21) جامع العلوم والحكم  (2/ 139)

(22) فيض القدير (4/ 242)

(23) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 155)

(24) إحياء علوم الدين (1/ 236)

(25) رواه الحاكم (1/ 595) وصححه الألباني في صحيح الجامع(2/ 948)

(26) رواه أحمد (2/ 373)

(27) رواه النسائي (4/ 218) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 692)

(28) رواه أحمد (5/ 363) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 377) وصححه الأرنؤوط في تحقيق المسند (38/ 168) ومعنى وحْرُ الصدر: غشُّه ووساوسه. وقيل الحقد والغيظ. وقيل العداوة. وقيل أشد الغضب. حاشية السيوطي على سنن النسائي (4/ 205)

(29) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 73) بتصرف

(30) مدارج السالكين (2/ 158)

(31) رواه البخاري (7492)، ومسلم (1151)

(32) رواه أحمد (2/ 174)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 612)

(33) رواه البخاري (3257)، ومسلم (1152)

(34) رواه  أحمد (2/ 402)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 578)

(35) صفة الصفوة (1/ 476)

(36) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 168).