اغتنم الحياة فهي زادك

اغتنم الحياة فهي زادك

إن الله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض وما فيهن، وخلق الجن والإنس لغاية عظيمة، ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ} [البينة: 5].

 وقال سبحانه مخاطبًا الغافلين عن هذه الغاية التي من أجلها خلقوا وأوجِدوا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 115 - 117]

وقال جل جلاله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]  يعني لا يؤمر ولا ينهى. والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملًا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة(1).

فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟ (2).

الدنيا مزرعة الآخرة:

لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى عباده أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، ووعظ الله عز وجل عباده وذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وأخبر أن كل صغير وكبير ودقيق وجليل مرجعه ومآبه إلى خالقه جل جلاله، ولا محالة ولا مهرب ولا مفر من إتيان  الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقَه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }[البقرة: 281](3).

فليحذر العباد وليتعظوا بموعظة الله لهم وليمتثلوا أمره فالأمر جدُّ خطير وعظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، قال أبو جعفر الطبري: في تفسير هذه الآية، يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس  يومًا ترجعون  فيه إلى الله فتلقونه فيه، أن ترِدوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتِكُ أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قِبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون.

 وكيف يُظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذَّر فأعذر، ووعظ فأبلغ(4).

وقال ابن القيم: " فانظر إلى الآخرة كأنها رأي عين، وتأمل حكمة الله سبحانه في الدارين، تعلم حينئذ علما يقينًا لا شك فيه: أن الدنيا مزرعة الآخرة وعنوانها وأنموذجها، وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار في الإيمان والعمل الصالح وضدهما، وبالله التوفيق"(5).

همسات في آذان الشباب

الكثير من الشباب هذا الزمان-إلا من رحم ربك- لا يفهم قيمة الوقت، بعد الانتهاء من

فترة الامتحانات الدراسية، يدخل في الإجازة الصيفية، مستقبِلًا أوقاته بجميع أنواع الألعاب من الكترونية إلى كروية وغير ذلك من الملهيات، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله يقول لك يا شيخ دعني استمتع بشبابي أنا الآن لازلت شابًا إذا كبرت فعلت وتبت وفعلت! يريد أن يقضي شبابه مع الشيطان، ثم هو يظن في نفسه أنه يبقى حتى يصير كبيرًا فيلتزم ويبحث إذا كبر عن دينه وهيهات هيهات! هذا مفهوم خاطئ لمعنى الشباب.

فمن لم ينتفع بشبابه لا يُرجى له اعتدال ولا استقامة ولله در القائل:

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت                    ولا تلين إذا صارت من الخشب

ولكن المعنى والمفهوم الحقيقي لمعنى الشباب، فهمه وفطنه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فيقول: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ الزَّمَانُ، وَأَنْ تَمَلَّ، فَاقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ).

فَقُلْتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي عَشْرَةٍ).

 قُلْتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ)

 قُلْتُ: "دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِن قُوَّتِي وَشَبَابِي" فَأَبَى(6).

 يريد عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، أن يستمتع بشبابه بالمفهوم الصحيح فيتعلم القران وأمور دينه في مرحلة شبابه، وصدق من قال إن الشباب هو عنوان العمر، ومرحلة الشباب قطعة من العمر، وهي أهم مرحلة سيسأل عنها الإنسان، لذلك خُصتْ بسؤال بين يدي الله يوم القيامة، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)(7).

شَبَابَ الجِيلِ لِلإِسْلاَمِ عُودُواْ                            فَأَنْتُمْ رُوحُهُ وَبِكُمْ يَسُودُ

وَأَنْتُمْ سِرُّ نَهْضَتِهِ قَدِيمَاً                                وَأَنْتُمْ فَجْرُهُ الزَّاهِي الجَدِيدُ

فالشباب هم: رجال الغد، وأمل المستقبَل، وثروة الوطن والمجتمع، وروح الأمة

أما الفتيات فهنَّ: الأمهات الصالحات اللاتي يتخرَّج على أيديهن العظماء من الرجال والنساء، فمتى صلحْن صار مُستقبلًا زاهرًا للمجتمع وللأمة.

الأمُّ مَدْرسَةً إذَا أعَدَدتها                           أعدَدتَ شعْباً طَيبَ الأعْرَاقِ

كانت حفصة بنت سيرين- كانت مشتهرة بكثرة التعبد(8)-تقول: يا معشر الشباب اعملوا، فإنما العملُ في الشباب(9).

وكان الضحاك بن مزاحم-أحد أئمة التفسير- شيخا كبيرا فقال لأحد الشباب: اعمل قبل ألا تسطيع أن تعمل، فأنا أَبغي أن أعمل اليوم فلا أستطيع(10).

من عاش على شيء مات عليه

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]

قال ابن كثير: في معنى قوله: { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: حافظوا على الإسلام

في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك(11).

وفي الحديث عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ يَقُولُ: " يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ"(12).

لا تغترنَّ بطول الأمل. . . لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا

يقول الله جل جلاله: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 33، 34]

يقول الله جل ذكره مخاطبًا عباده: اتقوا الله، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا؛ لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا.

وقوله: {إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ} يقول: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا} يقول: فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم. وقوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ}يقول: ولا يخدعنَّكم بالله خادع.

والغَرور بفتح الغين: هو ما غرّ الإنسان من شيء كائنا ما كان شيطانا كان أو إنسانا، أو دنيا(13).

وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ }، أي: فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر، أو ليل أو نهار، { وَيُنزلُ الْغَيْثَ }، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلا أو نهارًا، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ }، فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، وما هو، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا }، أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ لعلك الميت غدا، لعلك المصاب غدا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل؟.

 {إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان(14).

وفي الحديث عن أبي عزة يسار بْن عبد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة أو قال بها حاجة(15).

---

(1) تفسير ابن كثير(8/ 283).

(2) انظر مدارج السالكين لابن القيم(1/ 118).

(3) انظر تفسير ابن كثير(1/ 720).

(4) تفسير الطبري(6/ 42).

(5) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص: 123).

(6) أخرجه أحمد (2/ 163) وابن ماجه (1346) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3/ 346 ).

(7) رواه الترمذي (2416) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1221).

(8) قَالَ مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُوْنٍ: مَكَثَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيْرِيْنَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً لاَ تَخْرُجُ مِنْ مُصَلاَّهَا إِلاَّ لِقَائِلَةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي(4/ 507).

(9) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 109).

(10) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 110).

(11) تفسير ابن كثير(2/ 87).

(12) أخرجه مسلم(7413).

(13) تفسير الطبري(20/ 158).

(14) تفسير ابن كثير(6/ 355).

(15) أخرجه الترمذي(2147)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (110).