المجموعة: العدد الأول
الزيارات: 9892

 

الآثار الإيمانية لأسماء الله وصفاته

الآثار الإيمانية لأسماء الله وصفاته - سلسلة زاد الواعظين

مقدمة

إن أعظم ما يُدعى إليه من العلم: العلم الذي يُعرِّف العبدَ بربه سبحانه وتعالى، فإن العبد إذا عرف ربه حق المعرفة بأسمائه وصفاته عَلِمَ كيف يعبده ويدعو إليه على بصيرة، فمَن كان بالله أعلم كان بالسبل المقربة إليه وبالطريق الموصلة إليه أعْرَف وأخْبر.

قال العز بن عبد السلام: اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرةٌ لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفةُ كل صفة من الصفات تُثمر حالا عليَّة، وأقوالا سُنية، وأفعالا رضيَّة، ومراتب دنيوية، ودرجات أخروية.(1)

واقعٌ مُؤلم!

- أنْ تجد كثيرًا من الناس يعرفون عن كل شيء شيئًا، فإذا تعلّق الأمر بالله ومعرفته فوجئت منهم بِواقِع مخجل!

- أن تجد الرجل يتحدث عدةَ لغات أجنبية بطلاقة، فإذا جاء إلى تلاوة آية من كتاب الله فكأنه أجنبي!

- أن تجده عند الحديث في السياسة تجده محلِّلاً سياسيًّا بارعًا، وعند الحديث عن كرة القدم أو سوق العمل أو المشاكل الزوجية..الفن..الموضة..ربما يُبهِرُك بشدة إلمامه بالموضوعات وتأثره بها.

لكنك لو طلبت منه أن يتكلم عن ربه عدة دقائق، فلربما لا يستطيع إكمال خمس دقائق! ولو تكلم لكان ذلك بقلب بارد وعبارة متكلَّفة، فلا يؤثِّر كلامه في من حوله؛

لأن ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وما خرج من اللسان لم يجاوِز الآذان.(2)

أيُّ المعرفتين أولَى؟

قال الراغب الأصبهاني: لو أراد رجلٌ أن يتزوج إلى رجل أو يزوجه أو يعامله، طلب أن يعرف اسمَه وكنيته، واسمَ أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجوا رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها.(3)

 أفي الله شكٌّ!

 إنه الله جل وعلا أعرف المعارف، الذي هو دليل بنفسه على نفسه وعلى كل شيء، كما قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على مَن هو دليل على كل شيء، ولهذا قال الرسل لقومهم (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) [إبراهيم: 10] فهو أعرفُ مِن كلِّ معروف وأبْينُ مِن كل دليل، فالأشياء عرفت به في الحقيقة.(4)

وكان شيخ الإسلام كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:

وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ...إذا احتاج النهارُ إلى دليل(5)

خطورة الجهل بالله وأسمائه وصفاته

قال ابن القيم: لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا.(6)

إنَّ القلوب إذا لم يُحركها حادي معرفة الله عز وجل وتعظيمه، فإن العطب سيتمكن منها، والران سيكسوها، فأيّ شيء يريده قلبٌ لم يتعرف على الله عز وجل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الجهل بالله سُمٌّ مُهلك.(7)

وفى الجهل قبل الموت موتٌ لأهله...وأجسامُهم، قبل القبورِ، قبورُ

وأرواحُهم في وحشةٍ مِن جسومهم...وليس لهم حتى النشورِ نشورُ(8)

إنَّ الحياة المادية إذا استغرقنا فيها وابتعدنا عن تذكير القلوب بهذا المعنى المهم (معرفة الله) فإننا ولا شك سنستجلب الهموم والغموم، ونبتعد عن التوفيق، بل وعن لذة الحياة، فأي لذة في حياة من لم يتعرف على الله، أو غفل عن سبل معرفته.

فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟ وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟ وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه وما له بعد الوصول إليه.(9)

إنَّ روح المؤمن إذا لم يحركها حادي الشوق إلى لقاء الله، والتعرف عليه عز وجل، بالقراءة في أسمائه وصفاته، وتدبر كتابه، فأي حادي سيوصلها إلى غياتها بعد ذلك!.(10)

فمن عرف الله عرف ما سواه ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، قال تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)[الحشر: 19]

فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما، وهو أن مَن نسى ربه أنساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نَسِىَ ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده.(11)

ماذا لو عرفنا الله؟

نترك هذا الردّ للملائكة الكرام الذين يلتمسون مجالس الذكر ويحفونها بأجنحتهم، فإذا عرجوا إلى ربهم بعد انقضائها، يسألهم الله وهو أعلم (مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ ، فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ.فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِـــي؟ ، فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ، كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا).(12)

هل تأملتَ كيف يكون الحال لو رأى الناس ربهم؟

كيف لو عبدَ الناسُ ربَّهم كأنهم يرونه؟

حاجة الأرواح لمعرفة فاطرها وباريها

يقول ابن القيم:

ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظمَ منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلَّما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلَّما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله يُنزِل العبد من نفسه حيث يُنزله العبدُ مِن نفسه.

فالسيرُ إلى الله مِن طريق الأَسماءِ والصفات شأنُه عجبٌ، وفتْحُه عجبٌ؛ صاحبُه قد سِيقتْ له السعادةُ وهو مُسْتَلْقٍ على فراشه غيرُ تَعِبٍ ولا مَكْدُودٍ ولا مُشتَّتٍ عن وَطَنه ولا مُشرَّدٍ عن سَكَنِه.(13)

وإليك بعض الآثار الإيمانية التي تترتب على معرفة الله بأسمائه وصفاته والتعبد بمقتضاها، لعل ذلك أن يبعث الهمم ويحرك النفوس لتتعرف على ربها وخالقها ومعبودها.

الآثار الإيمانية للإيمان بأسماء الله وصفاته والتعبد بها

الأثر الأول: محبة الله

الطريق إلى محبة الله يمرَّ عبر معرفته، ومعرفته لا تكون إلا بمعرفة أسمائه وصفاته.

قال ابن القيم: كلُّ مَن عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات.(14)

قال الشيخ السعدي: معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها.(15)

و معرفة العبد لربه نوعان

قال ابن رجب: معرفة العبد لربه نوعان:

أحدهما: المعرفة العامة، وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.

والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل.

قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أُحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي، وليس معرفته الإقرار به، ولكن المعرفة إذا عرفته استحييت منه.(16)

الأثر الثاني: الدخول على الله والوصول إلى مرضاته

كلُّ اسم مِن أسماء الله الحسنى يُعدُّ بابًا عظيما مِن أبواب الدخول على الله، فمنا مَن

 يدخل على الله مِن باب الرحمة، ومنا مَن يدخل مِن باب المغفرة، أو من باب اللطف...، والدخول عليه سبحانه سبيل القرب منه، والقرب أول المحبة.(17)

قال ابن القيم: مَن وافَقَ اللهَ في صفةٍ مِن صفاته قادتْه تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلتْه على ربِّه، وأدنته منه، وقربتْه مِن رحمته، وصيرته محبوبا له، فإنه سبحانه رحيمٌ يحب الرحماء، كريمٌ يحب الكرماء، عليمٌ يحب العلماء.(18)

الأثر الثالث: الشوق إلى الله

كلما ازداد علمُ العبد بربه واكتملتْ له معرفته بأسمائه وصفاته، كلما ازداد شوقا إلى ربه وحنينا إلى لقائه، فالمحبة والشوق إلى المحبوب تابعان للعلم به، ولهذا كان أعرفُ الخلق بربه يلهج في دعائه ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (أَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ).(19)

 فما فائدة الشوق إلى الله؟ ولماذا دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

كلما زاد الشوق إلى المحبوب كانت اللذة بالقرب منه أعظم، والسعي إلى مرضاته أقوى.

قال ابن القيم: فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهون عليه الآلام والمشاق، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده.(20)

وقال أيضا: كلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت اللذة بالوصول إليه أتمّ، والمحبة والشوق تابعٌ لمعرفته والعلم به، فكلما كان العلم به أتمّ كانت محبته أكمل.(21)

الأثر الرابع: الفرح بالله والسرور به

من عرَف الله لم يعرف الحزنُ إلى قلبه سبيلاً، فلا حزن مع الله أبدًا؛ ولذا قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- لصاحبه في الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]

فدلَّ على أنه لا حزن مع الله، وأن مَن كان الله معه، فليس معه غير الفرح به والسرور بمعيته.

وفرح المؤمن بربه أعظم من فرح أيّ أحد بما يُفرَح به من حبيب، أو حياة، أو مال، أو سلطان، أو نعمة، فيفرح إذا حزن الناس، وينعم إذا شَقَوْا، ويناله بعض حال أهل الجنة الذين لقّاهم ربهم نضرةً وسرورًا.

وهذا ما رآه ابن القيم في شيخه...يقول ابن القيم: رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في المنام.وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلب.وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به.

وهكذا كانت حاله في الحياة.يبدو ذلك على ظاهره.وينادي به عليه حاله.(22)

وهذا الفرح إنما هو ثمرة معرفة الله عز وجل، وإحصاء أسمائه وصفاته.

وفائدة الفرح بالله أنه: يبعث العبد على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته.(23)

الأثر الخامس: التخلص مِن رِق النفس وحجابها

اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعةٌ بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخل عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها.(24)

والسبيل إلى التخلص من رِقّها وكمائنها، أن يعرف العبد ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال ويعرف نفسه بالنقائص والآفات فلا يُقدِّم هواها وشهواتها على أمر ربه، فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفس عن الهوى، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41]

فالنفس من أعظم الحجب عن الله؛ بل هي الحجاب الأكبر، فلو كشف العبد عنه هذا الحجاب لوصل إلى ربه.(25)

فمَن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل التام.(26)

الأثر السادس: حياة القلوب لا تكون إلا بمعرفة علام الغيوب

قال ابن القيم: لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله.(27)

قال تعالَى عن وحْيِه وكلامه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا..) [الشورى: 52]

فسمى وحيه وأمره روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح.(28)

قال ابن رجب: لا صلاحَ للقلوبِ حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللَّهِ وعظمتُه ومحبّتهُ وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤه والتوكلُ عليه، وتمتلئ مِنْ ذلك، وهذا هو حقيقةُ التوحيدِ، وهو معنى "لا إله إلا اللَّهُ "، فلا صلاحَ للقلوبِ حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألهُه وتعرفُه وتحبه وتخشاه هو اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.(29)

وقال ابن تيمية: صلاح القلب في أن يحصل له وبه المقصود الذي خلق له من معرفة الله ومحبته وتعظيمه، وفساده في ضد ذلك، فلا صلاح للقلوب بدون ذلك قط.(30)

الأثر السابع: الرضا بالله و عن الله

متى ظفر العبد بمعرفة ربه سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة، فإنه لا يزال راضيا عن ربه، والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية وهذا هو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة لا يخرج عن ذلك البتة (31) كما قال في الدعاء المشهور (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ).(32)

وعن الْعبَّاسِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا).(33)

يقول ابن القيم: أكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عَرف الله، وأسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده.(34)

الأثر الثامن: خشية الله

فخشية الله متوقفة على معرفة جلال الله وعظمته، فكلما كان العبد بالله أعرف كان له أشد خشية، وكلما كان به أجهل كان أشد غرورا به وأقل خشية.(35)

قال ابن رجب: العلم بالله تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت والعزة وغير ذلك يوجب خشية الله، وعدم ذلك يستلزم فقْدَ هذه الخشية، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]

 قال ابن عباس: يريد إنما يخافني مَن علم جبروتي، وعزتي، وجلالي، وسلطاني.(36)

قال ابن كثير: أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.(37)

فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة، وآياته المشاهدة المرئية، يوجب للعبد خشية الله وإجلاله، ويمنع من ارتكاب نهيه، والتفريط في أوامره؛ قال بشر بن الحارث: لو يُفكِّر الناسُ في عظمة الله لَمَا عصوا الله.(38)

ومن أعجب العجب أن يعرف العبد ربه ثم يعصيه، قال الحسين بن أحمد الصفار: سئل الشبلي، وأنا حاضر: أيُّ شيء أعجب؟ قال: قلبٌ عَرَفَ ربَّه ثم عصاه.(39)

وقال عمر بن عبد العزيز وسفيان بن عيينة: أعجب الأشياء قلب عرف ربه ثم عصاه.

قال ابن الجوزي: إنما كانت معصية العارف من أعجب العجب، لأنه من الله العزيز قريب، وعليه من الله في كل حال رقيب، فهو لقربه من الله كأنه يراه.(40)

وهذا رسول الله أعرف الخلق بالله لذلك كان أشدهم له خشية، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قال رسول الله (فَوَاللهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً).(41)

وعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا).(42)

وسئل الإمامُ أحمدُ عن معروف الكرخي، وقيلَ له: هلْ كان معه علمٌ؟ فقال: كان معه أصلُ العلم، خشيةُ اللَّهِ عزَّ وجلّ.(43)

الأثر التاسع: الوصول إلى أعلى مراتب الدين وهو الإحسان

ومشهد الإحسان هو (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).(44)

وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستويا على عرشه يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة.(45)

وتأمل هذا الموقف لتعلم النتيجة، خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنتَه وهما في الطواف، فلم يُجبه، ثم لَقيه بعد ذلك، فاعتذر إليه، وقال له: نحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا.(46)

فصاحب هذا المقام: كأنه يرى ربه سبحانه فوق سماواته على عرشه، مطلعا على عباده ناظرا إليهم، يسمع كلامهم.ويرى ظواهرهم وبواطنهم.(47)

---

(1) شجرة المعارف والأحوال (ص: 14 - 15).

(2) هنيئا لمن عرف ربه (ص6) بتصرف

(3) الحجة في بيان المحجة (1/ 134)

(4) الفوائد لابن القيم (ص: 21)

(5) مدارج السالكين (1/ 82)

(6) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 68)

(7) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 166)

(8) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 23)

(9) هداية الحيارى (2/ 591)

(10) شبكة الألوكة / جمال الحياة في معرفة الله / بحث لمحمد بن مشعل العتيبي.

(11) مفتاح دار السعادة (1/ 86)

(12) رواه البخاري (6408) ومسلم (2689) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-

(13) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 215)

(14) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 68)

(15) تفسير السعدي (ص: 35)

(16) جامع العلوم والحكم (1/ 473)

(17) هنيئا لمن عرف ربه

(18) الداء والدواء (ص: 67)

(19) رواه النسائي (3/ 54) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 770)

(20) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 15)

(21) الفوائد لابن القيم (ص: 53)

(22) مدارج السالكين (2/ 174)

(23) مدارج السالكين (2/ 67)

(24) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 75)

(25) مدارج السالكين (3/ 66)

(26) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 9)

(27) الصواعق المرسلة (1/ 150)

(28) اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 41)

(29) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 54)

(30) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 95)

(31) الفوائد لابن القيم (ص: 93)

(32) رواه أحمد (1/ 391) وابن حبان (972) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 361)

(33) رواه مسلم (34)

(34) زاد المعاد (3/ 206)

(35) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 256)

(36) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 122)

(37) تفسير ابن كثير (6/ 544)

(38) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 124)

(39) تاريخ بغداد ت بشار (16/ 563)

(40) التذكرة في الوعظ (ص: 180)

(41) رواه البخاري (6101) ومسلم (2356)

(42) رواه البخاري (6485)

(43) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 121)

(44) رواه البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(45) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 38)

(46) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 309) وجامع العلوم والحكم(1/ 128)

(47) مدارج السالكين (3/ 145)